دوافع للإيماني الإنجيلي

صراع أدّى إلى الاهتداء

أمير ريشاوي

أحد قادة الأحزاب الإسلامية المعاصرة

 

 

الفصل الثالث: مأزقٌ مِن معادلةٍ صعبة

لعبت كتابات المفكرين الإسلاميين أبي الأعلى المودودي وسيد قطب دوراً خطيراً في تأصيل فكرة الحاكمية التي جعلتها الصحوة الإسلامية شعاراً لها. وأصبحت الجماعات الإسلامية منذ ذلك الحين لا ترى في دولتها المنشودة إلا أن الحكم لله وحده!

ففي أكثر من ستة عشر مؤلفاً، عدا تفسيره في ظلال القرآن حاول سيد قطب أن يروّج لنظرية الحاكمية . وقد نجح إلى حدٍّ بعيد في توضيحها ورسم خطوطها العريضة والتي ترى أن العبودية لله هي الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله . والتلقّي عن رسول الله في كيفية هذه العبودية هو شطرها الثاني المتمثِّل في شهادة أن محمداً رسول الله.

وبناء على ذلك فقد ميّز سيد قطب بين نوعين من المجتمعات: الأول إسلامي والثاني جاهلي . وسِمة المجتمع الإسلامي الأولى أنه يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله، كما تمثلها وتكيّفها شهادة لا إله إلا الله . وتتمثل هذه العبودية في:

- التصوّر الاعتقادي

- الشعائر التعبدية

- الشرائع والقوانين

ثم ترتب على ذلك نتيجة أخرى هي أنه ليس عبداً لله من لا يعتقد بوحدانية الله. وليس عبداً لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحدٍ غير الله. ثم - وهذه هي الخطيرة - ليس عبداً لله وحده من يتلقّى الشرائع القانونية من أحد سوى الله .

أما المجتمع الجاهلي فهو كل مجتمعٍ غير المجتمع الإسلامي . وإذا أردنا التحديد هو كل مجتمع لا تَخْلص عبوديته لله وحده ممَثَّلة في التصّور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبّدية، وفي الشرائع القانونية. ثم ينتهي سيد قطب إلى أنه بهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً! بما فيها المجتمعات التي تزعم أنها مسلمة . ولكنها لا تدخل في هذا الإطار، لا لأنها تعتقد بألوهية أحدٍ غير الله، ولا لأنها تقدم شعائرها التعبدية لغير الله، ولكن لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها. فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد غير الله، تعطي أخصّ خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله (من كتاب معالم في الطريق لسيد قطب).

وفي موضع آخر يوضح سيد قطب هذه النقطة فيقول في كتابه "هذا الدين": ونحن مطالبون بتحقيق المنهج الإلهي حتى نحقق لأنفسنا صفة الإسلام، فركن الإسلام الأول شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله معناها القريب إفراد الله سبحانه بالألوهية، وعدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائص هذه الألوهية. وأولى هذه الخصائص هي حق الحاكمية المطلقة، الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد. فشهادة أن لا إله إلا الله لا تقوم ولا تتحقّق إلا بالاعتراف بأن لله وحده حق وضع المنهج الذي تجري عليه الحياة البشرية. وكل من ادَّعى لنفسه حق وضع منهجٍ لحياة جماعة من الناس فقد ادعى لنفسه الألوهية، لأنه يدَّعي لنفسه أكبر خصائص الألوهية، وهو التشريع !!

هذه هي نظرية الحاكمية التي عاشها وقُتل من أجلها سيد قطب. وقد ترتب عليها ما يلي:

المجتمع القائم اليوم مجتمع جاهلي.

المجتمع الإسلامي اختفى من الساحة منذ قرون.

ليس للمسلمين الخيار في تطبيق الشريعة أو رفضها، لأنها قانون إلهي مُنزَل.

حتمية قيام جماعة إسلامية تحمل عبء عودة المجتمع إلى إسلاميته الضائعة.

مفترق الطرق:

ولقد أدرك بالفعل أبناء العالم الإسلامي أهمية عودة الدولة الإسلامية التي أصبح وجودها فريضة شرعية . فأصبح العمل لهذه العودة هدف الإسلاميين جميعاً. غير أن وحدة الصف الإسلامي لم تدم طويلاً، وسرعان ما أصابه التفتُّت والتشرذم عندما انتقلوا إلى الخطوة الثانية وهي: ما السبيل إلى عودة المجتمع الإسلامي المنشود؟ فغدا الإسلام الواحد ألف إسلام، وأصبحت الجماعة أحزاباً وجماعات. منهم من يرى أن الجهاد والقتال والوقوف بالساعد والسلاح أمام القوى الجاهلية هو الطريق الوحيد لعودة الشريعة. ومنهم من يؤكد على فعالية القنوات الشرعية التي تتيحها الدولة في إقامة مجتمعهم الإسلامي. وآخرون يرون أن السبيل هو الانسحاب من الساحة السياسية والعمل على عودة المسلمين إلى ساحة المساجد وتربيتهم على الخلق الإسلامي القويم. ومنهم من هجر إلى بطون الصحراء والجبال مكفِّراً المجتمع حكاماً ومحكومين. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف الواضح في وسائل الفصائل الإسلامية للوصول لكيفية تطبيق الشريعة، إلا أن هناك خطاً عريضاً اتفقت عليه، هو وجوب تطبيق أبناء الحركة الإسلامية الإسلام في أنفسهم وحياتهم الشخصية حتى يتمكنوا من إقامة مجتمعهم الإسلامي، وأصبحنا لا نكاد نرى مقالاً أو كتاباً يتناول الحركة الإسلامية إلا ويشير إلى عبارة مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن الهضيبي: أقيموا دولة الإسلام في أنفسكم تُقَمْ على أرضكم. إن ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم على غيرها أعجز . وقال سيد قطب: لن يقام المجتمع الإسلامي إلا إذا حملته جماعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه وتجتهد لتحقيقه في قلوب الناس، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك .

ولكن هذا المبدأ الوحيد، الذي أجمعت عليه الفصائل الإسلامية على تعدُّدها وتنّوُعها في وسائلها، يُعدّ مخالفة صريحة للإسلام كما يفهمونه. فالإسلام كما قدّموه دين شامل متكامل، وهم لا يعنون بشموليته أنه دينٌ جمع بين العقيدة والشريعة فحسب، أو أنه جمع بين الجسد والروح، أو أنه شمل الدنيا والآخرة. بل الشمول والتكامل في المنهج الإسلامي تكاملٌ يجعل من الصعوبة أن تُطبّق جزئية واحدة منه دون باقي جزئياته، ثم تعطي نتيجة يرتضيها الناس من منهجٍ إلهي. فمثلاً لايمكن أن نطبق عقيدة الإسلام بدون شريعته، أو نطبق شريعته دون عقيدته. ففي الحالتين يُفقد الشمول والتكامل الذي يؤدي بدوره إلى فقدان الإسلام عقيدة ومنهاجاً، لأن الشريعة الإسلامية منبثقة من العقيدة، بل هي جزء منه (سيد قطب المستقبل لهذا الدين).

بل أن التكامل والشمول في المنهج الإسلامي يمتد ليشمل التكامل بين الشريعة والبيئة التي ستُطبَّق فيها. وهو تكامل حتمي، والفصل بينهما يؤدي إلى القضاء عليهما تلقائياً. فإن طبَّقنا الشريعة في بيئة يسودها جّوٌ جاهلي لفظتها جماهير الناس. وإن طبقنا قانوناً جاهلياً في بيئة إسلامية لفظ الجماهير أحدهما. فالتكامل بين البيئة والشريعة حتمي وضروري.

وبموجب هذا الفهم لشمولية الإسلام وتكامله، يعتقد قادة الحركات الإسلامية أن تطبيق الإسلام في حياة أبنائها وهم يعيشون في بيئة غير إسلامية دعوة تخالف جوهر الإسلام، كما أنها مستحيلة التطبيق.

فالمجتمع الإسلامي (بحسب سيد قطب) لا يقوم حتى تنشأ جماعةٌ من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة هي للَّه وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله، ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة، تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتنقّي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله!!

ويقول سيد قطب: "لا بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام في مجتمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى، منفصل ومستقل عن التجمّع الجاهلي، الذي يستهدف الإسلام إلغاءه. عندئذ فقط تكون هذه الجماعة مسلمة، خلصت ضمائرها من العبودية لغير الله اعتقاداً وعبادة وشريعة، وهي التي ينشأ منها وبها المجتمع الإسلامي (عن كتاب معالم في الطريق).

فلكي تعود دولة الإسلام لا بد من قيام جماعة تربّي نفسها على منهجه وأخلاقه وتعيش به وتدعو إليه - أي يتمثل الإسلام في تجمع عضوي حركي بتعبير سيد قطب.

إلا أنه يعود فيؤكد في كتابه هذا الدين أن تطبيق هذا التجمع للمنهج الإسلامي مستحيل في ظل الهيمنة الجاهلية على المجتمع، فيقول في كتابه هذا الدين : الذين يظنون أن أخلاقية الإسلام تجعل منه عبئاً ثقيلاً على البشرية إنما يستمدّون هذا الشعور مما يعانيه الفرد المسلم حين يعيش في مجتمع لا يهيمن عليه الإسلام. وحين يكون الأمر كذلك يكون الإسلام بأخلاقياته عبئاً فادحاً بالفعل يقصم ظهور الأفراد الذين يعيشون بإسلامهم النظيف في مجتمع جاهلي يكاد يسحقهم سحقاً. إن الإسلام نظام واقعي، يفترض أن الناس الذين يعيشون بمنهجه يعيشون في مجتمع يهيمن عليه الإسلام.

فلا بد إذاً من وسط خاص يعيش فيه هذا التصّور بكل قِيَمه الخاصة، غير الوسط الجاهلي، ولابد له من بيئة غير البيئة الجاهلية! ومن هنا ينبغي أن يعلم من يريد أن يكون مسلماً أنه لا يستطيع أن يزاول إسلامه إلا في وسطٍ مسلم يهيمن عليه الإسلام، وإلا فهو واهم إذا ظن أنه يملك أن يحقق إسلامه وهو فردٌ ضائع مطارَد في المجتمعات الجاهلية .

وكاتب آخر من كبار أساتذة كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة هو الشيخ محمد الغزالي. وقد وقع في كتابه فقه الحركة فريسة نفس التناقض، فقد أكد مراراً أن المجتمع الإسلامي لا يخرج إلا من القاعدة الإسلامية التي تربَّت على خُلُق الإسلام ومبادئه، ولا بد من وجود مسلمين حقيقيين قبل ظهور المجتمع الإسلامي. ثم نراه ينفي إمكانية ذلك في مؤلَّفين: أحدهما معركة مصحف فيقول: تتَّجه أوامر الله ونواهيه إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان، كما تتجه إلى الإنسان نفسه. تتجه إلى البيئة لتشكّلها على صورة معيّنة، وتفرغها في قالب محدد. كما تتجه إلى الإنسان بالمحو والإثبات فيما يفعل ويترك. والحكمة من ذلك واضحة، فإن العين القوية لا تستطيع الرؤية في الجو المظلم، فلا بد من وَسَطٍ يعين على الإبصار حتى تستطيع استبانة ما تريد . ويقول في بحثه نظرات في القرآن : "إن أثر البيئة في السلوك الإنساني غير منكور، بل الرأي الراجح أنها أقوى من الوراثة في تكوين الخلق وفي توجيه المرء إلى مستقبله. وأي نظام ينشد للفرد وجهة خاصة لا يمكن البتة أن يتجاهل ضغط البيئة على الفرد، ووحيها الخفي والجلي الذي يسيّره كيف يشاء. السيطرة على البيئة إذاً ضرورة لا بد منها لكل رسالة جادة، ولذلك كان الإسلام ديناً يشرّع للنفس والمجتمع والدولة على حدّ سواء".

إذاً لا سبيل للوصول إلى هذا المجتمع المنشود! ولكن هل أدرك شباب الصحوة الإسلامية أبعاد التناقض في هذه المعادلة الصعبة؟

الحركة الإسلامية تطالبه بأن يترفّع بنفسه عن أدناس الواقع، والبيئة تفرض عليه واقعاً لا يستطيع الفرار منه! ويصبح أمام أبناء الحركة الإسلامية أن يختاروا بين ثلاثة بدائل:

إما أن يثوروا على هذا الواقع وهذه البيئة لتصبح متفقة مع المنهج المطلوب تطبيقه.

وإما أن ينعزلوا خارج المجتمع ويتقوقعوا في أحد الكهوف أو بطون الصحراء والجبال، ليتمكنوا من ممارسة إسلامهم بعيداً عن ضغط الواقع الجاهلي.

وإما أن يستسلموا ويتخلّوا عن الإسلام كلية.

وهذه بدائل بالرغم من أنها مورست من بعض أبناء الحركة الإسلامية إلا أنها لم ولن تؤدّي إلى نتيجة أو توصّل إلى هدفٍ إيجابي. واختيار أحدها له أضراره وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع، والتي قد تصل في النهاية إلى تدمير الفرد والمجتمع على حدٍ سواء.

 

الصفحة الرئيسية

جميع الحقوق محفوظة

عاودوا الزيارة بعد فترة وسوف تجدون مواضيع هامة جداَ