الباب الثالث

الفداء أو الطريق الإِلهي للغفران

 

- 1 -

ضرورة الفداء أو التعويض

لا سبيل للحصول على الغفران أو التمتع باللّه إلا إذا تم أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته بوسيلة ما. لكن الذين لا يدركون هذه الحقيقة، أو يدركونها لكن يتغاضون عنها لعدم معرفتهم بكيفية إتمامها، يريحون ضمائرهم من جهة الغفران والتمتع باللّه، بترك الأمر إلى رحمته. ونحن وإن كنا نعتز برحمة اللّه كل الاعتزاز، ونؤمن أنه لا حد لها على الإطلاق، وأنها وحدها هي الكفيلة بالإتيان إلينا بالصفح والغفران، لكن لكيلا يكون الاعتماد عليها مؤسساً على مجرد الأمل، بل على الحق والواقع نقول:

لنفرض أن قضية رُفعت إلى قاض مشهور بالرحمة والرأفة، لكنه إلى ذلك يقدّس العدل ولا يفرّط في حق، فهل يجوز للمذنب أن يُطمْئِن نفسَه بأن هذا القاضي سيبرئ ساحته لأن قلبه الرحيم الرؤوف لا يرضى بتوقيع العقوبة القانونية عليه؟ (الجواب) طبعاً لا. وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أن اللّه كما أنه رحيم رؤوف هو عادل وقدوس أيضاً، إذاً لا يجوز أن نُطَمْئِن نفوسنا بما هو عليه من رحمة ورأفة، قبل أن نعرف الوسيلة التي تؤهلنا للتمتع بها دون الإجحاف بمطالب عدالته وقداسته، فما هي الوسيلة يا ترى؟

الجواب: بما أننا لا نستطيع بالصلاة والصوم والتوبة والأعمال الصالحة أن نفي مطالب عدالة اللّه وقداسته التي لا حد لها.. وبما أن عدالة اللّه وقداسته لا تقلان في شيء عن رحمته ومحبته، بسبب كماله المطلق وتوافُق كل صفاته معاً كما ذكرنا. إذاً إن كان هناك مجال للتمتع بالغفران والقبول أمام اللّه (ومن المؤكد أن يكون هناك مجال للتمتع بهما، لأن صفتي الرحمة والمحبة في اللّه لا يمكن أن تكونا بلا عمل) ، لا بد من الفداء أو التعويض، أو بالحري لا بد من إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا. وإيفاء هذه المطالب يستلزم طبعاً من هذا الكائن أن يقبل على نفسه القصاص الذي نستحقه بسبب خطايانا تنفيذاً لمطالب عدالة اللّه، وأن يهبنا أيضاً طبيعة روحية تجعلنا أهلاً للتوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية تنفيذاً لمطالب قداسته.

أما الفداء في اللغة العبرية فهو الترضية وإزالة الأحقاد بعد دفع التعويض. وفي اللغة العربية هو الإنقاذ وليس بدون مقابل، بل بعد تقديم التضحية اللازمة. وقد تكون هذه التضحية مالاً أو غير مال. جاء في القاموس المحيط فداه أي دفع شيئاً فأنقذه، ويكون قد اشتراه ثانية. أما في اللغات الأوروبية فيُراد بالفداء أربعة أمور: (1) استرداد الشرف المُعتدَى عليه (2) إطلاق سراح الأسير (3) استعادة الشيء المرهون (4) إنقاذ شخص من أزمة أو موت. وكل ذلك بواسطة تضحية أو مجهود ما.

 

الاعتراضات التي توجَّه ضد هذه الحقيقة والرد عليها

 

1 - القاضي الوارد ذكره في المثل السابق، مقيَّد بقوانين يجب عليه تطبيقها، فضلاً عن ذلك له رؤساء يراقبون كل أحكامه. لكن اللّه لا يتقيد بقوانين ولا يراقب عمله رؤساء، لذلك له أن يصفح عنا ويقربنا إليه بدافع من رحمته وحدها.

الرد: وإن كان الله لا يتقيّد بقوانين ولا يراقب أحدٌ عمله، لكن له كماله الذاتي الذي ينزّهه عن القيام بأي عمل لا يتفق مع عدالته وقداسته.. حقاً إن اللّه يستطيع أن يعمل كل شيء، لكن استطاعته هذه لا تتعدّى خواصه الذاتية. فبسبب كماله لا يستطيع (مع قدرته التي لا حدّ لها) أن يعمل عملاً يتعارض مع هذه الخواص. فهو (مثلاً) لا يقدر أن يكذب أو يكون ماكراً، لأن الصدق والاستقامة صفتان ثابتتان فيه. ولا يقدر أن يكون متساهلاً أو متهاوناً مع الشر، لأن العدالة والأمانة صفتان ثابتتان أيضاً فيه. فلا بد من إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا يكون قادراً على القيام بهذه المهمة، يُعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يكون معها كأنه لم يُعْتَدَ عليه، وأن يعطينا حياة روحية تسمو بنا إلى حالة التوافق مع اللّه في صفاته السامية، طالما نحن غير قادرين على القيام بهذين العملين. وإلا فلا غفران لنا.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإنسان (مثلاً) يقدر ألّا يكذب، أما اللّه فلا يقدر أن يكذب. فالعبارة الأولى تدل على القدرة على عدم الكذب، أما الثانية فتدل على استحالة الالتجاء إلى الكذب، وعلى التنزُّه المطلق عن الكذب، وهذا ما يليق باللّه دون سواه.

2 - هل من العدالة أن يقوم كائن بريء بالتعويض عن خطايا أحد المذنبين؟

الرد: البريء هو الوحيد الذي يحقّ له قانوناً التعويض عن المذنبين، لأنهم لا يقدرون أن يعوّضوا عن مذنبين نظيرهم، لأنهم في ذواتهم يحتاجون إلى من يقوم بالتعويض عن ذنوبهم. ونقول:

إن مبدأ النيابة مبدأ سليم تشهد العدالة بقانونيته، طالما كان النائب قادراً وموافقاً على القيام بمطالب النيابة. فالشخص الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه في قضية ما، ينتخب نائباً قانونياً يدافع عنه، ولا تمانع المحكمة في هذا التصرف بل تلتزم به.

والمدين الذي يعجز عن سداد دَيْنه يقوم النائب أو الضامن بسداده نيابة عنه، وبذلك يخلّص المدين من دينه وما يترتب عليه من مسئولية أمام العدالة. والأب الفاضل يتحمل في نفسه نتائج أخطاء أبنائه عوضاً عنهم. والجندي الباسل يبذل نفسه فدية عن أهله ووطنه. وليس من يعترض على واحد من هؤلاء، بل أننا جميعاً نبجّلهم ونشيد بأعمالهم.

3 - أليس عجزنا جميعاً عن إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته مبرراً كافياً يدعوه للعفو عنا وتقريبنا إليه، دون أن يلزمنا بالبحث عن كائن يفي هذه المطالب عوضاً عنا، لا سيما إذا كان من المتعذر علينا العثور عليه؟.

الرد: إذا عفا اللّه عنا وقرّبنا إليه لمجرد عجزنا عن إيفاء مطالب عدالته وقداسته، يكون قد تنازل عن المطالب المذكورة مضطراً. وبما أنه حاشا للّه أن يُرغَم على القيام بعملٍ يتعارض مع عدالته أو قداسته، لذلك لا مفرّ من إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا، وإلا فلا خلاص لنا على الإِطلاق، كما ذكرنا فيما سلف.

4 - كثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا دون أن نُلزمهم بتعويض ما، فهل يكون اللّه أقل عطفاً أو شفقة منا؟

الرد: (أ) لا تجوز المقارنة بين معاملة اللّه معنا وبين معاملة بعضنا للبعض الآخر، لأننا تارة نصفح بسبب تأثُّرنا بعواطفنا البشرية دون أن يكون هناك مبرر كافٍ للصفح، وتارة نعاقب تحت تأثرنا بمصالحنا الشخصية دون أن يكون هناك مبرر كافٍ للعقوبة. وكثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا بسبب نسياننا لإِساءتهم أو لهبوط درجة تأثرنا بها، أو بسبب شعورنا بنقائصنا ورغبتنا الباطنية في أن يصفح الناس عنا عندما نخطئ نحن إليهم. أما اللّه ففضلاً عن أنه لا ينسى شيئاً، ولا يتغير، فإنه بسبب كماله المطلق من جهة، وتوافُق كل صفاته معاً من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون متساهلاً بمراعاة الرحمة دون العدالة في حالة الصفح. أو قاسياً بالتمسك بالعدالة دون الرحمة في حالة العقوبة، بل يصفح إذا كان الصفح لا يتعارض مع مطالب عدالته، ويعاقب إذا كان العقاب لا يتجاوز مطالب رحمته، لأنه ليس رحيماً في وقت وعادلاً في وقت آخر، بل هو إنه رحيم وعادل معاً في كل وقت من الأوقات. وإذا كان الأمر كذلك، فلا سبيل إلى الغفران إلا إذا وُفيّت مطالب عدالته، ولا سبيل إلى التمتع بالوجود معه إلا إذا تحققت مطالب قداسته، إما بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا.

(ب) فإذا أخذنا في اعتبارنا أن الناموس الأخلاقي الذي وضعه اللّه لنا، يتوافق مع صفاته كل التوافق، وأن هذا الناموس نفسه هو الذي يربط الخطية بعقوبتها، أدركنا (1) أنه لا يمكن الفصل بين هذه وتلك، لأن الفصل يكون قطعاً للعلاقة بين اللّه وبين ناموسه الأخلاقي الذي يتوافق مع صفاته. وهذا ما لا يمكن حدوثه، إذ يترتب عليه أن يكون اللّه قد نهى عن السرقة والزنا (مثلاً) وفي الوقت نفسه سمح للصوص والزناة بالتمتع به في سمائه، مناقضاً نفسه بنفسه. (2) إن تجاوز اللّه عن خطايانا يكون موافقة منه عليها، أو تنحياً منه عن المحافظة على الناموس الأخلاقي الذي وضعه، وهذا الأمر وذاك باطلان. فلا سبيل إلى الغفران إلا بعد الفداء أو التعويض.

5 - يصفح الملوك عن بعض المذنبين المحكوم عليهم بالإعدام بأمر ملكي يصدرونه، فكيف لا يصفح الله عن الخطاة على هذا النحو؟

الرد: الملوك الذين يقومون بهذا العمل لا يكونون متأثرين شخصياً بجرائم هؤلاء الأشخاص، أو بالعدالة المطلقة في بلادهم، أو بقوانين الأخلاق العامة فيها، أو يكونون مضطرين للقيام به لوجود علاقة تربطهم بالأشخاص المذكورين، أو لاجتذاب فريق من الناس إلى جانبهم، أو لتجنيب بلادهم انقلاباً أو ثورة داخلية. لكن اللّه يتأثر مع روحانيته المطلقة بالخطايا التي نرتكبها (كما ذكرنا فيما سلف) ، كما أن العدالة لديه ليست مجرد قانون مكتوب أو غير مكتوب، بل إنها صفة ثابتة فيه يجب إيفاء مطالبها مهما كانت الظروف والأحوال. وليس هناك من يرغمه على القيام بعمل، مجاملة لبعض الناس أو خوفاً منهم، فلا يمكن أن يصفح إلا إذا كان الصفح قانونياً، متوافقاً مع عدالته المطلقة.

أخيراً نقول إن الذين يريدون أن يصفح اللّه عنهم بكلمة، ينظرون إلى الخطية نظرة سطحية. لكن الحقيقة غير ذلك، لأن الخطية ليست مثل القذارة التي يمكن إزالتها بالماء أو بغيره، بل هي إهانة لجلال اللّه (كما ذكرنا فيما سلف) ، وهي شر ينبع من طبيعة فاسدة كل الفساد. فلا يمكن الصفح عن الخطاة أو تقريبهم إلى اللّه، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته معاً بوسيلة ما.

6 - الكمال المطلق الذي يتّصف اللّه به، يجعله لا يتقيَّد بأي قيد، فتكون له الحرية المطلقة في الصفح عن الخطاة دون أن يُلزمهم بتعويض لى.

الرد: ليست الحرية المطلقة في نظر اللّه هي الحرية المطلقة في نظر الناس. فالناس ينظرون إلى الحرية المطلقة كأنها المجال الذي يفعلون فيه ما يريدون، بغض النظر عن الكمال وقوانينه الثابتة. فالحرية المطلقة في نظرهم هي الإِباحية بأوسع معانيها. أما الحرية المطلقة في نظر اللّه، فهي المجال الذي يفعل فيه كل ما يريد في حدود كماله الذاتي. فكما لا يمكن أن يرفض الله شخصاً متوافقاً معه في صفاته الأخلاقية، لا يمكن أيضاً أن يقبل في حضرته شخصاً غير متوافق معه فيها. وقال الوحي إن إدانة البريء وتبرئة المذنب كلاهما مكرهة عند الرب (أمثال 17: 15) .

ونحن بذلك لا نقسو على أنفسنا أو نقيم العراقيل أمامها من جهة الحصول على الغفران، بل نبحث السبيل إليه من الناحية التي تتناسب مع موقف عدالة اللّه وقداسته إزاء الخطية وشناعتها، حتى لا تكون نظرتنا إلى الغفران مؤسسة على تصوراتنا الشخصية بل على الحقائق الإِلهية. لأننا لا نحصل عليه بمجهودنا الذاتي، بل اللّه هو الذي يمنحه لنا، بناءً على شرائعه الخاصة. وهذه الشرائع ثابتة راسخة، لا تتغير ولا تتبدل على الإِطلاق.

 

- 2 -

نشأة الفداء

 

ذكرنا في الباب الأول أن آدم عندما أكل من الشجرة المنهي عنها ومات موتاً أخلاقياً، لم ينفذ اللّه فيه وقتها حكم الموت الجسدي الذي أنذره به في حالة العصيان، كما أنقذه من الموت الأبدي الذي هو العقاب الذي كان سيتعرض له في العالم الآخر، وذلك بتوقيع الموت على حيوان عوضاً عنه. وإن كانت هذه الذبيحة الحيوانية في حدّ ذاتها غير كافية للفداء، لكن لأنها كانت رمزاً إلى ذبيحة عظمى في نظر اللّه، لذلك اكتسبت وقتئذ شرعاً قوة الفداء. ولبيان هذا نقول:

سجَّل الوحي أن اللّه بعدما اقتاد آدم وحواء للاعتراف بعصيانهما والندم عليه، صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما (تكوين 3: 21) . وبما أن كل كلمة موحى بها تُستعمل في معناها الصحيح، لذلك لا بدّ أن اللّه لم يخلق هذه الأقمصة من العدم بل صنعها. ولما كانت صناعتها تستلزم وجود جلد وقتئذ تُصنع منه، واللّه لم يخلق جلداً بمفرده، بل خلق حيوانات يكسوها الجلد، إذاً فمن المؤكد أنه بوسيلة ما تمَّ ذبح حيوانين، ومن جلدهما صُنعت هذه الأقمصة.

فإذا تأملنا الظروف المحيطة بهذا الموضوع، يتضح لنا أن الغرض من ذبح الحيوانين المذكورين لم يكن لمجرد الحصول على الجلد، بل للتكفير بهما (أو بالحري التعويض بهما) عن آدم وزوجته. وذلك للأسباب الآتية:

(1) لم يكن عسيراً على اللّه الذي خلق العالمين بكلمة، أن يخلق أقمصة من الجلد بكلمة أيضاً، بدلاً من ذبح حيوانين لاستخدام جلدهما في صنع الأقمصة المذكورة.

(2) لم ينتفع آدم وحواء بلحم هذين الحيوانين في شيء، فلم يكن هناك مبرر لذبحهما لولا أن اللّه قصد به أول فدية عن آدم وامرأته. أما أول من أكل اللحم فهو نوح وأولاده (تكوين 9: 3) ، ولكن من سبقوهم من البشر كانوا يأكلون النباتات فحسب. ويؤكد علماء التاريخ الطبيعي هذه الحقيقة ويقولون إن الإِنسان لم يعرف أكل اللحوم إلا بعد فترة طويلة من وجوده على الأرض.

(3) قدم هابيل بن آدم عن نفسه (كما سنرى فيما بعد) ذبيحة حيوانية للّه، وطبعاً لم يكن ممكناً له أن يعرف كيفية تقديمها أو ضرورة تقديمها من تلقاء ذاته، لأنه لم يكن يأكل لحماً حتى يعرف كيفية ذبح الحيوان، أو يدرك استحقاقه للموت بسبب أي خطية يرتكبها، حتى يقدم هذا الحيوان كفارة عن نفسه. فلا بد أنه عرف هذين الأمرين من أبيه. وطبعاً لم يكن ممكناً لأبيه أن يعرفهما لولا أنه أدرك أن اللّه قصد بذبح الحيوانين اللذين لم ينتفع هو بشيء منهما سوى الجلد، أن يكونا كفارة عنه وعن امرأته.

مما تقدم يتضح لنا: (أ) أن الموت الذي كان يجب أن يحل بآدم وحواء بسبب عصيانهما حلَّ بحيوانين بريئين عوضاً عنهما، وذلك بترتيبٍ إلهي، رحمةً بآدم وحواء من جهة، وإيفاءً لمطالب عدالة اللّه على النحو الذي ارتضاه من جهة أخرى. (ب) ستر اللّه عري آدم وحواء الذي ترتَّب على عصيانهما، وغطى نتائج خطيتهما، بجلد هذين الحيوانين، فيكون اللّه قد جعل الفداء أساس الخلاص من قصاص الخطية ونتائجها السيئة، التي كان يُشار إليها بالعري وقتئذ.

- 3 -

الفداء في عصر الآباء

 

عصر الآباء هو العصر الذي عاش فيه المؤمنون باللّه قبل نزول أي شريعة من لدنه، فكانوا يتقربون إليه ويتعبدون له على أساس الذبيحة التي علَّمها لآدم، عندما سمح بذبحها نيابة عن نفسه، كما يتضح مما يلي:

1 - قدم هابيل ذبيحة لله من أبكار غنمه ومن سِمانها (تكوين 4: 4) ، وقدمها بإيمان أن اللّه يرضى عنه على أساسها. وبسبب إيمانه هذا شهد اللّه عنه أنه بار (عبرانيين 11: 4) . وهذه أول مرة يُوصف فيها إنسان بأنه بار في الكتاب المقدس. ومن مواضع كثيرة منه يتضح لنا أن البار لدى اللّه ليس هو الإِنسان الخالي من الخطية (لأنه ليس هناك مثل هذا الإنسان) ، بل هو الإِنسان الذي يدرك استحقاقه للقصاص الأبدي بسبب خطاياه. وبالإضافة إلى توبته عنها، يعتمد في أمر القبول أمام اللّه على كفارة يرتضيها بناءً على وصاياه في العصر الذي تقدم فيها، وذلك لإِيفاء مطالب عدالته على النحو الذي يقبله.

2 - بنى نوح بعد خروجه من الفلك مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسَّم اللّه رائحة الرضا (تكوين 8: 21) . وهذا يعني أن نوحاً وإن كان أفضل من معاصريه الذين أهلكهم الطوفان، غير أنه أدرك ببصيرته الروحية أنه خاطئ يستحق الهلاك مثلهم، لأن الخطية لا تكون بالفعل فقط، بل وبالقول والفكر أيضاً. وأدرك أن إنقاذ اللّه إياه من هذا الهلاك، إنما يرجع إلى رحمته، فقدَّم الذبائح من البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة عالماً بالإِيمان أنها وحدها هي التي يليق تقديمها كفارة للّه.

3 - وبنى إبراهيم أبو المؤمنين مذبحاً للرب عندما ظهر له بالقرب من شكيم، ولما حلّ بعد ذلك شرق بيت إيل، بنى مذبحاً آخر له (تكوين 12: 6-8) ، وعندما نقل خيمته إلى بلوطات ممرا، بنى هناك مذبحاً ثالثاً (تكوين 13: 18) . وبناء هذه المذابح دليل على أن إبراهيم كان يقدم عن نفسه ذبائح للّه، ودليل أيضاً على أنه كان يعبد اللّه ويكرّس حياته له. ثم أن اللّه عندما طلب منه أن يقدم ابنه ذبيحة، لم يتردد لحظة واحدة. لكن لما كان هذا الطلب مجرد امتحان، أراه اللّه كبشاً. فقدمه إبراهيم ذبيحة عوضاً عن ابنه، أو فدية عنه (تكوين 22: 13) .

4 - وبنى إسحق مذبحاً ودعا باسم الرب عندما ظهر له الرب ووعده أن يبارك نسله، (تكوين 26: 25) ، وأعلن له أنه للرب، وأنه يذبح له دون سواه، كما كان يفعل إبراهيم أبوه.

5 - وأقام يعقوب مذبحاً لما أتى سالماً إلى مدينة شكيم، ودعاه إيل، إله إسرائيل (تكوين 33: 20) ءإيل كلمة عبرية معناها اللّه ، وفي اللغة العربية أيضاً يسمى اللّه الإِل (مختار الصحاح ص 22) ، ويرجع السبب في هذا التشابه إلى أن أصل اللغتين العربية والعبرية (والسريانية والأرامية أيضاً) واحد. أما الاسم إسرائيل فهو الاسم الذي أطلقه اللّه على يعقوب، عندما أظهر استماتته في التمسُّك باللّه، ومعناه المجاهد مع اللّه . وأمر الله يعقوب، بناءً على عهد سابق من يعقوب لله، أن يصعد إلى بيت إيل ويبني هناك مذبحاً، فبنى المذبح كما أمره اللّه. ودعا المكان إيل بيت إيل ، لأن هناك ظهر له اللّه (تكوين 35: 1-8) . وقبل نزوله إلى مصر ليرى ابنه يوسف، ذبح ذبائح للّه (تكوين 46: 1) . فظهر له اللّه ووعده بأنه سيرافقه في طريقه إليها.

6 - وكان أيوب يُصعد ذبائح بعدد أبنائه للّه، ليفديهم بها من قصاص ما يمكن أن يكون قد صدر منهم من خطأ في تصرفاتهم (أيوب 1: 5) ، حتى لا يقع هذا القصاص عليهم.

مما تقدم يتضح لنا أن المبدأ الذي على أساسه كان اللّه يُظهِر الرحمة للبشر (حتى الذين اصطفاهم من بينهم) هو اعترافهم بأنهم خطاة وأنهم يستحقون القصاص الأبدي بسبب خطاياهم، ثم تقديمهم بعد ذلك الذبائح عوضاً عن نفوسهم.

 

- 4 -

الفداء في اليهودية والإسلام

 

أولاً - الفداء في اليهودية:

يشمل هذا الفداء الذبائح التي كان يقدمها بنو إسرائيل، وفق الشرائع التي أعلنها اللّه لموسى النبي، وكانت هذه الذبائح تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

1 - (القسم الأول) الذبائح العامة:

وهي الذبائح القومية التي كانت تُقدم للّه في كل يوم، وفي كل موسم من المواسم الدينية، وأهمها:

(أ) الذبيحة اليومية: وهي خروفان حوليان (عمر الواحد سنة) صحيحان: الخروف الأول يُقدَّم صباحاً والخروف الثاني بين العشاءين (العدد 28: 3 و4) .

(ب) ذبيحة يوم السبت: وهي خروفان حوليان صحيحان، بالإضافة إلى خروفي الذبيحة اليومية (العدد 28: 9 و10) . كلمة السبت معناها الراحة . وكان بنو إسرائيل يطلقونها على يوم الراحة الأسبوعية.

(ج) ذبيحة أول الشهر: وهي ثوران وكبش وسبعة خراف حولية صحيحة (العدد 28: 11-15) .

(د) ذبيحة الفصح: وهي ثوران وكبش وسبعة خراف صحيحة وتيس واحد، في كل يوم من أيام الفصح السبعة (العدد 28: 16-25) . هذا عدا ذبيحة الفصح العائلية التي كانت تعملها كل أسرة بنفسها (تثنية 16: 2) .

(ه) ذبيحة باكورة الحصاد: وهي ثور وكبش واحد وسبعة خراف حولية صحيحة وتيس (العدد 29: 1-5) .

(و) ذبيحة عيد الكفارة: وهي ثور وكبش وسبعة خراف حولية صحيحة وتيس (العدد 29: 7-10) .

(ز) ذبيحة عيد المظال: وهي 71 ثوراً و15 كبشاً و105 خروفاً حولياً و8 تيوس، تقدم في ثمانية أيام متتالية (العدد 29: 12-40) .

(ح) ذبيحة البقرة الحمراء: وكان رمادها يوضع في ماء، ويستعمل للتطهير الرمزي لكل من مسّ ميتاً أو قتيلاً (العدد 19: 1-10) .

2 - (القسم الثاني) الذبائح الشخصية:

وهي الذبائح التي كان يقدمها الأفراد، كل واحد حسب ظروفه، وأهمها:

(أ) ذبيحة المحرقة: وكان يأتي بها كل من أراد التقرب إلى اللّه والتمتع برضاه (لاويين 1: 1-9) ، فمثلاً عندما جلس سليمان على العرش بعد أبيه، قدم للّه في يوم واحد ألف ذبيحة محرقة (1ملوك 3: 4) .

(ب) ذبيحة السلامة: وكان يأتي بها كل من أراد أن يشكر اللّه لأجل إحسان أسداه إليه، أو أراد أن يقدم له نافلة (أي ذبيحة تطوّعية) ، للدلالة على الإخلاص له والرغبة في التفاني في إكرامه (لاويين 3: 1-5 و7: 11-21) . وعند تكريس الهيكل أراد سليمان الملك أن يعبر عن شكره للّه، فقدم ذبائح سلامة عددها 22 ألفاً من البقر و120 ألفاً من الغنم (1ملوك 8: 63) .

(ج) ذبيحتا الخطية والإثم: وكان يأتي بإحداهما من عمل سهواً شيئاً من الأمور التي نهى اللّه عنها (لاويين 4: 1- 5 ولاويين 5: 1-19) . غير أن الذبيحةالأولى كانت تُقدم للّه باعتبار الخطية نجاسة. أما الثانية فكانت تُقدم له باعتبار الخطية ذنباً، لأننا بارتكاب الخطية لا ننجّس أنفسنا فقط، بل نسيء إلى اللّه أيضاً.

(د) ذبيحة الملء أو التكريس الكامل: وكانت تُقدَّم عند التكفير عن الكهنة يوم إقامتهم بأعمالهم، للدلالة على أنهم أصبحوا مقدسين للّه ولخدمته (لاويين 8: 22-36) من الناحية الرمزية.

(ه) ذبائح مختلفة، وهي ذبيحة التطهير الخاصة بالأم عندما تلد (لاويين 12: 1-8) ، والأبرص عندما يبرأ (لاويين 14: 1-20) ، والمصاب بسيل عندما ينقطع سيله (لاويين 15: 1-15) . كما كانوا يقدمون ذبيحة عن كل بكر يولد من البشر أو البهائم النجسة. أما كل بكر بهيمة من الحيوانات الطاهرة، فكان يقدم بنفسه ذبيحة (العدد 18: 17) ، لأنه، دون البكر من الحيوانات النجسة، كان يليق تقديمه للّه. وتقديم التطهير عند الولادة سببه وصف أوجاع الولادة جزءاً من العقاب الذي وقّعه اللّه على المرأة بسبب خطيتها (تكوين 3: 16) . أما مرض البرص والسيل فصورتان للخطية: الأول من الناحية الظاهرية، والثاني من الناحية الباطنية. أما تقديم بكر كل بهيمة فسببه أن اللّه كان قد أنقذ أبكار بني إسرائيل وحيواناتهم من القتل عندما كانوا في أرض الفراعنة (خروج 12: 29) ، فأصبح كل بكر من هؤلاء وأولئك ملكاً له، من الواجب أن يُفتدى بذبيحة أو يقع عليه قضاء الله بالموت (خروج 13: 2 و15) .

ونلاحظ في هذه الذبائح:

(1) إنها كانت تُقدم عن خطايا السهو التي لا يعلم المرء بها إلا بعد صدورها منه، الأمر الذي يدل على أنها (على العكس مما يظن بعض الناس) ذنوب أمام اللّه، كما ذكرنا في الباب الأول.

أما الخطايا التي كانت تُرتكب عمداً فلم تكن لها كفارة ما، بل كان من الواجب أن يُقتل أو يُرجم فاعلها بناءً على قول اللّه: وأما النفس التي تعمل بيد رفيعة (أي عمداً) من الوطنيين أو من الغرباء، فهي تزدري بالرب، فتُقطع تلك النفس من بين شعبها لأنها احتقرت كلام الرب ونقضت وصيته (عدد 15: 30) . وقد قصد اللّه بذلك أن يعلمنا وجوب الابتعاد عن الخطية.

(2) لم يكن يُعفى من تقديم الذبائح أحدٌ حتى إذا كان فقيراً. لكن رأفة بالفقراء سمح اللّه لهم بتقديم ذبائح رخيصة الثمن، مثل الحمام أو اليمام (لاويين 14: 21 و22) .

(3) كانت هذه الذبائح تقدم على مذبح النحاس القائم في هيكل اللّه، فكان المفهوم لدى الجميع أنها مقدَّمة لأجل الحصول على الغفران، كما كان الذين يقدمونها يضعون أيديهم على رؤوسها ويقرّون عليها بخطاياهم، رمزاً لانتقال خطاياهم إلى الذبائح المذكورة، فكانت تعتبر كفارة أو فدية عنهم (لاويين 4: 4) .

(4) كان الشخص الذي يأتي بذبيحة السلامة يأكل جزءاً منها كما يأكل منها الكاهن الذي قدمها، رمزاً لاشتراكهما في التمتع بإحسان اللّه (لاويين 7: 11-38) . وذبيحة الإِثم التي لا يدخل الكاهن بدمها إلى قدس الأقداس، كان يأكل جزءاً منها وحده، رمزاً لأنه مسئول عن إِثم الناس الذين يوجدون في دائرة خدمته. أما ذبيحة المحرقة وذبيحة الخطية اللتان كان يدخل بدمهما إلى قدس الأقداس، فلم يكن يأكل منهما أحد. فكانت الأولى تُحرق على المذبح لأنها كانت تعتبر قرباناً طاهراً للّه للحصول على رضاه (لاويين 6: 8-13) . أما الثانية فكانت تُحرق خارج المحلة لأنها كانت تعتبر نجسة بسبب نيابتها عن خطاة يستحقون العذاب الأبدي بعيداً عن اللّه (لاويين 6: 24-30) .

(5) كان من الواجب بصفة عامة أن تكون الذبائح بلا عيب، فالحيوان الأعمى أو المكسور أو المجروح أو البثير أو الأجرب أو الأكلف أو مرضوض الخصية أو مسحوقها، لم يكن يُسمح بتقديمه ذبيحة للّه (لاويين 22: 21-25) ، وكان ذلك رمزاً إلى أن الفادي الذي يصلح كفارة عن الناس يجب أن لا يكون طاهراً فحسب، بل وأن يكون كاملاً من كل الوجوه أيضاً.

 

ثانياً: الفداء في الإسلام

كان الفداء بالذبائح الحيوانية معروفاً عند العرب قبل ظهور الإسلام، كما كانوا يعتزون به اعتزازاً كبيراً، فإن عبد الله بن عبد المطلب افتداه أبوه من القتل بنحر مائة من الإبل، ولذلك كانت السيدة آمنة بنت وهب تفخر بأن زوجها هو الذي استأثر دون رجال قريش بمجد الفداء (كتاب المولد للشيخ محمد برانق ص 17) .

والفداء في الإسلام أو الكفارة نوعان: (أ) بالأعمال الصالحة مثل: الصوم والصدقة والنسك والحج وعتق رقبة وترك القصاص واجتناب الكبائر والسعي على العيال. (ب) بتقديم الذبائح الحيوانية.

(أ) الكفارة بالأعمال الصالحة:

1 - جاء في سورة البقرة 2: 184 أن من يفطر يوماً في رمضان بسبب المرض أو السفر، عليه أن يصوم يوماً عوضاً عنه، إن كان قادراً. وإلا فعليه أن يقدّر الفدية اللازمة، وهي إطعام مسكين أو أكثر.

2 - وجاء في سورة البقرة 2: 196 أن من يتمتع بالعمرة إلى الحج، يجب أن يقدم ما تيسر له من الهدي. ومن لم يجد هدياً، ففديته صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى بلدته. أما من يمتنع عن الحج بسبب مرض أو أذى في رأسه، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك.

والعمرة والحج هما زيارة البيت الحرام بمكة. والفرق بينهما أن العمرة واجب، أما الحج فركن من أركان الدين. ثم أن العمرة ليست مقيدة بوقت، أما الحج فيكون في شهري ذي القعدة والعشرة الأيام الأولى من ذي الحجة. والواجبات الدينية التي تُمارس في العمرة تختلف عن التي تُمارس في الحج.

أما الهدي فهو ما يُهدى إلى الحرام من الإبل والبقر والغنم.

3 - وجاء في سورة المائدة 5: 45 أن من يترك حق توقيع القصاص على شخص سبق أن اعتدى عليه، يكون هذا الترك كفارة له.

4 - وجاء في سورة المائدة 5: 89 أن من يحنث في يمينه، فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. وإذا لن يجد، فعليه بصيام ثلاثة أيام.

5 - وجاء في سورة النساء 4: 31 أن التكفير عن الصغائر يكون باجتناب الكبائر. وورد في الأحاديث أن التكفير عن الكبائر يتم فقط بالحج المبرور والغزو في سبيل الله. وأن هناك ذنوباً لا يكفرها صوم ولا صلاة ولا جهاد، وإنما يكفرها السعي على العيال (تحفة المريد ص 109 وحاشية الأمير ص 147) .

6 - وقال دكتور محمد على أبو ريان في جريدة الأهرام القاهرية يوم 28-12-1967: الصوم بمعنى الكفارة أو التكفير عن الذنوب أو التعويض عن تقصير في ممارسة الشعائر الدينية يستهدف تعذيب النفس لاستدرار رحمة الله. والشعور بالألم نوع من العقوبة الذاتية التي يفرضها المرء على نفسه كعقاب عن الخطية .

وقال الدكتور أحمد الشرباصي في كتابه الفداء في الإسلام : الفدية هي ما يقي بها الإنسان نفسه من مال يبذله عن عبادة قصَّر فيها، ككفارة اليمين، أو كفارة الصوم أو غيرهما .

(ب) الفداء بالذبائح الحيوانية:

يمكن الحصول على الغفران أيضاً بنحر الذبائح. واستيفاءً للبحث نتحدث فيما يلي عن الذبائح التي ذكرها القرآن، وعن أنواعها ومميزاتها الواردة في المراجع الإسلامية الهامة:

1 - جاء في سورة المائدة 5: 27 : واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . قال الدكتور أحمد الشرباصي في كتابه الفداء في الإسلام تعليقاً على هذه الآية: في القربان هنا معنى التضحية والفداء، وهو ما يتقرب به الإنسان إلى الله .

2 - وجاء في سورة الصافات 37: 107 أن الله فدى ابن إبراهيم بذبح عظيم. وقال البيضاوي في تفسيره: إن كلمة عظيم التي يوصف بها الكبش، يُقصد بها أنه عظيم القدر، لأن الله فدى به نبياً (ج5 ص 9) . وقال الدكتور أحمد الشرباصي تعليقاً على هذه الآية: أي جعلنا هذا المذبوح فداءً له وخلصناه به من الذبح . إذ لولاه لكان قد ذُبح ابن إبراهيم ومات.

ذهب علماء المسلمين من جهة ابن إبراهيم هذا مذهبين: فعكرمة وعبد الله بن مسعود وكعب وابن سابط وابن أبي هذيل يقولون إن الذبيح هو إسحق. أما ابن عباس وأبو طفيل والشعبي ومجاهد فيقولون إن الذبيح هو إسماعيل (الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزيري ج1 ص 62 و63) .

3 - وجاء في سورة الكوثر 108: 2 أن في عيد الأضحى تكون الصلاة أولاً، ثم النحر بعد ذلك. وقال البيضاوي: إن النحر هو التضحية (ج5 ص197) ، والتضحية كما نعلم هي الفدية . وعيد الأضحى في إيران يسمى عيد القربان أي عيد الذبيحة أو الأضحية. ومن الأدعية التي تُقال في هذا العيد هناك: اللهم اجعل هذه الذبيحة كفارة عن ذنبي وانزع الشر عني . فيكون النحر فدية عن النفس كما ذكرنا.

4 - وجاء في سورة البقرة 2: 196 ما معناه أنه إذا وقع حصار من الأعداء في أثناء الحج والعمرة، يجب تقديم ما تيسَّر من الهدي، ويُطلق على هذا الهدي اسم القربان (المصحف المفسّر ص 38) .

5 - وجاء في سورة المائدة 5: 95 أن من يقتل طيراً وهو محرم، فعليه بمثل ما قتل. ويقول بعض علماء الدين إن الضبع يُعوَّض عنه بكبش، والغزال بعنز، والأرنب والحمامة بشاة (كتاب الحج ص 46) .

6 - وجاء في كتاب الحج (ص 21-46) أن من لا يودع البيت قبل الخروج للسفر، فعليه دم، وكذلك من يحلق أو يطوف قبل الرمي، أو يقوم بعصب عضو من أعضائه، أو نتف شعر من أنفه أو إبطه وهو محرم، ناسياً أو جاهلاً. والمقصود بالرمي هنا رمي الحجارة على إبليس.

7 - وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج1 ص 202) أن الرسول ضحى مرة بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده الكريمة، كما نحر عن أزواجه. ومرة أخرى نحر ثلاثاً وستين ناقة بعدد سني حياته، وأمر علياً أن ينحر باقي المائة (البداية والنهاية ) ج5 ص 188 ، ومرآة الحرمين ج1 ص 91) . ومرة أخذ كبشاً فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد (شرح الآبي والسنوسي ج5 ص 296 و297) . وأيضاً اللهم هذا عني، وعمن لم يضحّ من أمتي (مشكاة المصابيح ص 420) .

8 - وجاء في تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب (ص 248) أن في اليوم السابع للمولود تقدم عنه ذبيحة تدعى العقيقة ، وهي سُنّة مؤكدة تُذبح وقت طلوع الشمس. فإن كان غلاماً ذُبحت عنه شاتان، وإن كانت جارية ذبحت عنها شاة. ويُسنّ أن لا يُكسر عظم العقيقة بل تفصل الأجزاء فحسب. وذبيحة الفصح عند اليهود لم يكن يُكسر أيضاً عظم منا (خروج 12: 46) . وجاء في رد المعاد في هدى خير العباد (ج2 ص3-5) : العقيقة تشبه العتق عن المولود فإنه رهين بعقيقته. فالعقيقة تفكه وتعتقه . ولذلك فهذه الذبيحة تشبه ذبيحة الفدية عن الأبكار لدى اليهود. وجاء في (صحيح البخاري ج3 ص66) أن الرسول قال مع الغلام عقيقة، فاهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى . ويُقال عند ذبح العقيقة اللهم هذه عقيقة ابني (فلان) . دمها بدمه ولحمها بلحمه، وعظمها بعظمه، وجلدها بجلده، وشعرها بشعره. اللهم اجعلها فداءً لابني من النار .

أما من جهة أنواع الذبائح وفوائدها والشروط الواجب توافرها فيها، فنقول:

1 - جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج1 ص 696-700) أن أنواع الهدي أربعة:

(أ) هدي التمتع والقران، وهو واجب في الحج والعمرة. والتمتع هو الإحرام بالعمرة ثم بعد ذلك بالحج. أما القران فهو الإحرام بالحج والعمرة معاً.

(ب) هدي الكفارة أو الفدية، وهو ما يقدم عند ترك واجب من الواجبات.

(ج) هدي النذر، وهو واجب عند وفاء النذر.

(د) هدي التطوع، وهو ما يتبرع به المحرم. وبمقارنة هذه الذبائح بالذبائح اليهودية، يتضح أن هناك كثيراً من الشبه. فهدي التمتع والقران يشبه ذبيحة المحرقة، وهدي الكفارة أو الفدية يشبه ذبيحتي الخطية والإثم، وهدي التطوع والنذر يشبهان ذبيحة السلامة. ويؤكل من هدي القران والتمتع، وكذلك من هدي التطوع. أما هديا النذر والكفارة فلا يؤكل منهما. وإن أكل إنسان منهما عليه أن يضمن القيمة للفقراء.

وهذه الشريعة لها ما يماثلها أيضاً في اليهودية، فكانت تصرح بالأكل من ذبائح السلامة وذبائح الإثم التي لا يدخل بدمها إلى قدس الأقداس، وتنهي عن الأكل من ذبائح المحرقة عامة، وعن ذبائح الخطية التي يُدخل بدمها إلى هذا المكان، وذلك للأسباب السابق ذكرها.

2 - وجاء في كتاب إحياء علوم الدين (ج1 ص 243) أن ذبح الهدي هو تقرب إلى الله بحكم الامتثال لذلك قيل: أكمل الهدي وأرجُ أن يُعتق الله بكل جزءٍ منه جزءاً منك من النار. فهكذا ورد الوعد أنه كلما كان الهدي أكبر وأجزاؤه أوفر، فإن فداءك من النار أعم .

3 - وجاء في كتاب إحياء علوم الدين (ج2 ص 187) أنه لا يُضحَّى بالعرجاء والعضباء والجرباء والشرقاء والخرفاء والمقابلة والمدابرة والعجفاء، والجدع في الأنف والقطع فيها والعضب في القرن وفي نقصان القوائم، والشرقاء المشقوقة الأذن من فوق والخرافاء من أسفل. ووجوب خلو الذبيحة حتى من العيوب الجسمية السطحية الطفيفة التي لا تؤثر بشيء على لحمها، دليل على أن الغرض الأساسي من ذبحها ليس مجرد إطعام الفقراء، بل التفكير بها عن نفس صاحبها، لأن الذبيحة الكفارية يجب أن تكون كاملة لا عيب فيها على الإطلاق.

4 - وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج1 ص 700) : ويندب أن يكون الصنف الذي يضحى به جيداً من أغلى النعم (النعم واحد الأنعام، ويطلق بصفة خاصة على الإبل) . وأن يكون أيضاً من مال طيب. ويكره جز صوفها وشرب لبنها قبل الذبح . وجاء في تنوير القلوب (ص 246) أنه يجب على صاحب الذبيحة عدم ركوبها قبل ذبحها، أو الأكل منها أو استخدام جلدها في شيء خاص به بعد ذبحها وهذا الشرط له ما يماثله تقريباً عند اليهود فقد جاء في (تثنية 15: 19) أن الحيوان المعين ليكون ذبيحة، يجب على صاحبه أن لا يشتغل عليه أو يجزه قبل ذبحه. وجاء في جريدة المصري (الصادرة في 8 سبتمبر 1949) مقال للشيخ محمد شلتوت عضو هيئة كبار العلماء وقتئذ، ينص على أنه من الواجب أن لا يُستعاض عن الذبيحة بتوزيع ثمنها على الفقراء، الأمر الذي يدل على أن الغرض الأساسي من ذبحها، ليس إطعامهم، بل التكفير بها عن نفس صاحبها.

 

- 5 -

الفداء في الوثنية

 

نبذ معظم الناس الوثنية من عهد بعيد. لكن لما كانت ولا تزال منتشرة في بلاد متحضرة، ويعتنقها إلى الآن أشخاص نالوا قسطاً وافراً من الثقافة، فلا بد أنها قامت على آراء جديرة بالبحث. وبدراسة هذه الآراء يتضح لنا:

(1) كان الوثنيون في أول الأمر يعبدون اللّه الواحد، لكن لعجزهم عن إدراكه، عبدوا الكائنات التي تصوّر لهم الصفات التي تخيَّلوها فيه، فرفعوا هذه الكائنات إلى مرتبة الألوهية، وتقدموا إليها بكل خشوع واحترام بعد غسل أجسادهم بماء كانوا يدعونه الماء المقدس ، كما قربوا لها الذبائح الحيوانية لينالوا (حسب اعتقادهم) غفرانها ورضاها. وكان معظم الوثنيين يعتزون بهذه الذبائح اعتزازاً عظيماً، فكانوا يزينونها بأزهار جميلة ويرقصون حولها، ثم يسلّمونها للكاهن ليتولى تقريبها إلى آلهتهم.

(2) وكان قدماء المصريين يواظبون على تقديم الذبائح الحيوانية لآلهتهم على مذبح خاص في كل هيكل من هياكلهم. وكان على الكهنة الذين يقرّبونها أن يحلقوا شعرهم وينظفوا ملابسهم حتى لا يكون بهم شيء من الهوام. وكانوا في أثناء تقريب تلك الذبائح ينشدون ترانيم معينة، ويقومون بشعائر دينية خاصة. أما عند استعطافهم للإِله تيفون فكانوا يحرقون الضحايا وهي حية. وبعد حرقها كانوا يذرّون رمادها في الهواء، ليُنتزع منهم (كما يعتقدون) كل شر يمكن أن يكون فيهم.

(3) وبلغ شعور الفرس والبابليين بشرّ الخطية شأناً عظيماً، حتى كانوا يشعلون ناراً أمام آلهتهم ويطرحون فيها أبناءهم ليكون المحترقون كفارةً عنهم، أو روّاداً يفسحون لهم الطريق إلى العالم الآخر، أو رسلاً يحملون المعونة لأقاربهم الذين رحلوا عن هذا العالم من قبل. ومما يثير الدهشة أنهم كانوا يحرقون أبناءهم وسط قرع الطبول وهتاف المغنين!!

(4) وكان الهنود يعذبون أنفسهم بطرق كثيرة مثل المشي على المسامير، وعدم تحريك أيديهم أو أرجلهم، أو قطع بعض أجزاء من أجسامهم. ظناً منهم أنهم بهذه الوسائل يكفّرون عن خطاياهم ويتخلّصون منها ومن عقابها. كما كانوا يقدمون أبناءهم طعاماً للحيوانات المؤلَّهة كالتماسيح، ليحصلوا (حسب اعتقادهم) على عفوها ورضاها. فقد جاء في كتاب ال&يدا (الكتاب المقدس عندهم) أن الإنسان كفّر عن نفسه أولاً بنبات الأرض، ثم بالحيوان، ثم بأولاده. ويقول المؤرخون إن بعض الهنود، تحت تأثرهم بشناعة خطاياهم، وفداحة التضحيات التي كانوا يبذلونها في سبيل التكفير عنها، كانوا يقولون متى يا ترى نخلص نهائياً من خطايانا!! .

ومن المأثور عن الكاهن الذي كان يقدم الذبائح في الهند، أنه كان يطهّر أولاً نفسه بما كان يُدعى الماء المقدس ثم يطهّر الجو المحيط به بواسطة رسم دائرة واسعة في الفضاء بذراعه. وبعد فحصه للذبائح وتأكده من سلامتها، كان يدور حولها ثلاث مرات، وهو يحمل مشعلاً في يمينه. أما أصحاب الذبائح فكانوا يظلون بالقرب منها حتى يذبحها الكاهن ويأخذوا أنصبتهم منها، ويشاهدوا بعد ذلك بقاياها وهي تحترق بالنار. وكانوا يعتقدون أن من يأكل من الذبائح تنتقل إليه صفات الإِله المقدَّمة هذه الذبائح إليه. فقد جاء في الترانيم ال&يدية أن من يقدم محرقة إلى الإله براهما يتَّحد به، ولكن في دائرته.

(5) وكان اليونان والرومان، يؤمنون بآلهة متعددة للزراعة والإخصاب والجمال والحرب وغير ذلك. وخشية أن يكونوا قد نسوا واحداً منها بنوا مذبحاً وكتبوا عليه: لإله مجهول ، وكانوا يقدمون لهذا الإله وغيره من الآلهة الكثير من الذبائح الحيوانية. ولم تكن هذه العادة عند عامتهم فحسب، بل وعند خاصتهم أيضاً. فسقراط عندما تذكر قبل موته أنه مدينٌ بديكٍ لإِله الطب اسكولابيوس أوصى تلميذه أن ينوب عنه في تقديم هذا الدّيك. وأفلاطون الذي ارتقى روحياً عن معاصريه، فأدرك الشيء الكثير عن وحدانية اللّه والفضيلة التي يجب مراعاتها، ذكر حقيقة سامية من جهة الذبائح لم يدركها كثيرون منهم، فقال: الذبائح ضرورية، لكنها لا تنفع البشر إلا إذا توافرت فيهم النية الصالحة . ولعله قصد بهذه النية، التوبة عن الخطية والعزم الوطيد على السلوك حسب قوانين الفضيلة.

ونظراً لانتشار الذبائح في الوثنية واليهودية معاً، ظن بعض الناس أن اليهود نقلوا عادة تقديمها من الوثنيين الذين كانوا يختلطون بهم. لكن هذا الظن باطل للأسباب الآتية:

(أ) اقترن تقديم الذبائح لدى الوثنيين بالفسق في كثير من الأحيان. أما تقديم الذبائح عند اليهود فاقترن بالقداسة والخشوع التام أمام اللّه الذي أعلن لهم أنه قدوس ويبغض الشر حتى في أبسط مظاهره. (اقرأ مثلاً: لاويين 11: 44 ويشوع 24: 19 و1صموئيل 2: 2) . وعندما حاول اليهود مرة أن يقتدوا بالوثنيين المذكورين، أمر اللّه موسى أن يقتلهم بالسيف، فقتل منهم وقتئذ ثلاثة آلاف رجل (خروج 32: 4-29) ، كما هددهم بالموت إذا تشبَّهوا بالوثنيين في نجاساتهم ورجسهم وأكلهم للدم وتفاؤلهم وتشاؤمهم ونقش الوشم على أجسادهم، والاتصال بالجان في تدبير شؤونهم (لاويين 18-20) .

(ب) لم يكن الوثنيون يقدمون الذبائح للتكفير عن خطاياهم فقط، بل وأيضاً ليُرضوا الأرواح الشريرة التي كانوا يعتقدون أنها تزعجهم، أو ليبعدوها عن أجساد الذين لبستهم وترحل إلى عالمها، فاقترن تقديم الذبائح لديهم بالشعوذة. فكانوا يقربون لآلهتهم وحوش البرية والطيور الجارحة (التي كان من المحرّم على اليهود تقديمها للّه) ، كما كانوا يشربون الدم ولا يحرقون أي ذبيحة بأكملها، على النقيض مما كان يفعله اليهود.

(ج) كان عند الوثنيين في كل بلد الكثير من المذابح التي اتَّخذوها قِبلات لصلاتهم، فكانوا يبالغون في تزيينها ونقش صور آلهتهم عليها، كما كانوا يشيدونها على المرتفعات ليفخروا بها. أما اليهود فكان عندهم مذبح واحد في هيكل أورشليم. وقبل بناء هذا الهيكل، كان اللّه يطلب منهم أن يصنعوا المذبح من التراب أو من حجارة لم يمسسها إزميل، لتكون منخفضة، وفي الوقت نفسه لا تكون ذا شكل يجذب الأنظار إليها في ذاتها (خروج 20: 24 و25) .

(د) كان ملوك الوثنيين يقومون أحياناً بتقديم الذبائح. أما اليهود فقصروه على الكهنة فقط الذين أقامهم اللّه. وقد حاول مرة أحد ملوك بني إسرائيل أن يرفع بخوراً في الهيكل للّه، فضربه اللّه بالبرص (2أخبار 26: 18 و19) .

(ه) كان كهنة الوثنيين يحلقون رؤوسهم بالموسى، أو يربّون خصلاً، كما كانوا يشربون الدم ويقتنون الأملاك. أما كهنة اليهود فكانوا يجزّون شعر رؤوسهم، ولا يربّون خُصلاً، ولا يشربون الدم، ولا يقتنون أملاكاً، لتكون كل آمالهم وجهودهم مركزة في خدمة الرب.

(و) بالرجوع إلى التاريخ نرى أن الذبائح ليست دخيلة على اليهودية بل أصيلة فيها. فقد كان يقدمها آباء اليهود الأوائل مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب. كما كان يقدمها قبلهم رجال اللّه الأتقياء مثل هابيل ونوح، قبل ظهور الوثنية على الأرض بأجيال متعددة. أما الذي نقله اليهود عن الوثنيين في فترة من الزمن، فهو عادة تقديم أبنائهم ذبيحة للوثن مولك وقد نهاهم اللّه كثيراً عن هذه العادة، كما أنزل عليهم بسببها قصاصاً شديداً (إرميا 7: 31-34) .

وهنا يثور سؤال: كيف تسرب إلى الوثنيين الاعتقاد بوجوب تقديم الذبائح الحيوانية لآلهتهم؟.. والإجابة: طبعاً تسرَّب إليهم من أجدادهم الأوائل: حام وسام ويافث، الذين تكونت منهم الأجناس البشرية في آسيا وإفريقية وأوروبا على التوالي، كما يتضح من الكتاب المقدس وكتب الجغرافية. وكان سام وحام ويافث بحكم علاقتهم مع نوح أبيهم يعرفون وجوب تقديم الذبائح للّه (تكوين 6: 10) . لكن على مرّ الأيام نسي أبناؤهم (الذين عُرفوا فيما بعد بالوثنيين) الرب، وبقي اسمه فقط عالقاً بأذهانهم، لذلك كانوا يطلقونه على الكائنات التي تخيَّلوا أنها تتَّصف بصفاته، فكانوا يقدمون الذبائح والقرابين إليها وفقاً للمراسيم التي اخترعوها كما ذكرنا. ومن المحتمل أن يكون المفكرون منهم مثل سقراط وأفلاطون رأوا وجوب تقديم هذه الذبائح نتيجة لشعورهم الشخصي بشناعة الخطية، ورغبتهم في تجنب القصاص الذي يستحقونه من العدالة الإلهية بسببها، وبذلك سَرَت عادة تقديم الذبائح بين بعض الوثنيين.

 

- 6 -

أهمية سفك دم الذبائح في الحصول على الغفران

 

تعتري بعض الناس دهشة عظيمة عندما يرون الأضاحي الكثيرة التي كانت ولا تزال تُقدَّم في معظم بقاع الأرض. لكن لا داعي للدهشة على الإطلاق، لأنه لما كان الصفح عن الخطية أثمن شيء لدى المؤمنين باللّه، ولما كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على هذا الصفح هي الفدية، كان من البديهي أن يضحي هؤلاء المؤمنون بهذه الكمية الهائلة من الذبائح. ولزيادة الإِيضاح نتحدث عن النقاط الآتية:

1 - أهمية سفك دم الذبائح للتكفير، في اليهودية والمسيحية:

قال اللّه لموسى النبي: لأن نفس الجسد هي في الدم. فأنا أعطيتكم إياه على المذبح للتكفير عن نفوسكم، لأن الدم يكفّر عن النفس (لاويين 17: 11) وقال الرسول بولس للمسيحيين: بدون سفك دم لا تحصل مغفرة (عبرانيين 9: 22) . وبما أن دم الحيوان يجري في جميع أجزاء جسمه ويبعث الحياة إليها، وبما أن الذي يقوم بهذه المهمة هو النفس، لذلك تكون نفس الحيوان في دمه، كما أعلن الكتاب المقدس.

أما السبب في أن الدم هو الوسيلة الوحيدة للمغفرة أو الفداء، فيرجع إلى أن حياة الحيوان هي في دمه. وبما أنه بسفك دمه تفارقه حياته، كان من البديهي أن يُعتبر سفك الدم تعويضاً عن نفس الخاطئ، فينجو من القصاص الذي يستحقه، ويحصل على المغفرة التي يحتاج إليها.

2 - عدم صلاحية القرابين غير الدموية للتكفير عن النفس:

رفض اللّه قربان قايين (أخي هابيل) لأنه لم يكن ذبيحة دموية، بل كان ثمراً من ثمار الأرض. فقد قال الوحي عن اللّه إلى قايين وقربانه لم ينظر (تكوين 4: 5) .

وهنا يثور سؤال: إذا كان الغفران يتوقّف على سفك الدم، فلماذا لم يرشد اللّه قايين، كما أرشد هابيل أخاه، إلى ضرورة تقديم ذبيحة دموية؟ وللرد على ذلك نقول: إن اللّه أرشده كما أرشد أخاه تماماً، لكن قايين هو الذي شاء أن يقدم قرباناً حسب استحسانه، فاستحقَّ أن يلومه اللّه بالقول إن أحسنت (اختيار الذبيحة) أفلا رفعٌ؟ أو بالحري أَمَا كان يرتفع وجهك، وتنال القبول أمامي مثل أخيك (تكوين 4: 7) . واللوم لا يُوجَّه إلا للشخص الذي يخالف وصية سبق تبليغها إليه.

ويرجع السبب في قبول اللّه لهابيل إلى أن قربانه يبرهن على اعتماده على الفداء بالدم. وأن سبب رفض الله لقايين أن قربانه برهن على اعتماده على الاجتهاد الشخصي في قبول الله له، لأن هذا الاجتهاد مهما كان شأنه، لا يستطيع أن يكفر عن الخطية، لأن أجرة الخطية هي موت : موت فاعلها أو موت من ينوب عنه، وليس القيام بعمل من الأعمال التي ندعوها الصالحة أو النافعة.

أما القول إن اللّه رضي عن هابيل لأنه كان تقياً، ورفض قايين لأنه كان شريراً، فنقول: إن هابيل كان مولوداً بطبيعة تميل إلى الخطية مثل أخيه تماماً. ولا شك أنه كان يرتكب الخطية مثل أخيه، إن لم يكن بالفعل فبالفكر أو القول. فيرجع السبب في قبول اللّه لهابيل ورفضه لقايين إلى نوع القربان الذي قدمه كل منهما. وهذا هو الدليل على صدق قول الوحي عن هابيل إن اللّه شهد لقرابينه (وليس شهد له أو لأعماله) (عبرانيين 11: 4) .

3 - تحريم شرب الدم: لما كان الدم هو الوسيلة التي عينها اللّه للغفران، حرم على البشر شربه. فقال لبني إسرائيل: كل إنسان من بيت إسرائيل ومن الغرباء النازلين في وسطكم يأكل دماً، أجعل وجهي ضد النفس الآكلة الدم وأقطعها من شعبها (لاويين 17: 10) . كما قال لنوح وأولاده من قبل، عندما سمح لهم لأول مرة في التاريخ بأكل اللحم: كل دابة حية تكون لكم طعاماً، كالعشب الأخضر دفعتُ إليكم الجميع. غير أن لحماً بحياته دمه (أي بدمه الذي فيه الحياة) لا تأكلوه (تكوين 9: 3 و4) . وبذلك نهى ليس عن شرب الدم فقط، بل وأيضاً عن الحيوانات التي لم يُسفك دمها. لأنه قال في موضع آخر ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوا (خروج 22: 31) . كما قال عن الكاهن في العهد القديم وميتة أو فريسة لا يأكل (لاويين 22: 8) . ولما جاءت المسيحية نهت أيضاً عن شرب الدم وأكل لحم الحيوان الذي لم يُسفك دمه، فقد قال الرسُل للمؤمنين وأن تمتنعوا عن الدم والمخنوق (أعمال 15: 29) .

 

الاعتراضات التي توجَّه ضد الحقائق السابقة والرد عليها

 

1 - نَهى اللّه عن شرب الدم لأنه شر في ذاته، وليس لنا أن نسأل عن ماهية هذا الشر، إذ يكفي أن نطيع اللّه في كل ما يأمرنا به.

الرد: ليست المادة في ذاتها شراً، بل الشر هو في سوء استعمالها، فالمواد المخدرة مثلاً، من حيث هي مواد نباتية أو كيمائية، ليست شراً، لأنها تُستعمل بأمر الأطباء في علاج بعض الأمراض. إنما الشر هو في استعمالها لخدمة الأهواء الجسدية. وبما أن الدم فضلاً عن أنه ليس شراً في ذاته، يحتوي على عناصر مغذية للجسم. ومنه يصنع الهيموجلوبين لعلاج حالات فقر الدم، إذاً ليس من المعقول أن يكون اللّه قد نهانا عن شرب الدم لذاته.

2 - نَهى اللّه عن شرب الدم، لأن حاسة الذوق فينا لا تقبله.

الرد: يعرف الإِنسان، بل والحيوان أيضاً، بالطبيعة طعم الأشياء، فيأكل منها ما يتفق مع ذوقه ويرفض ما لا يتفق معه، دون أن يكون في حاجة إلى أمر أو نهي من اللّه عن هذا أو ذاك. فضلاً عن ذلك فهناك أشياء كثيرة (كسلوفات الصودا مثلاً) لا تقبلها حاسة الذوق فينا، ومع ذلك ليس هناك من يقول إنه محرَّم علينا استعمالها.

3 - نهى اللّه عن شرب الدم لأنه يثير الشهوة في الإِنسان، كما يحوّله إلى وحش مفترس.

الرد: إن كانت بعض الأطعمة تبعث النشاط إلى جسم الإِنسان، لكن الذي يثير الشهوة فيه ليس تناول هذه الأطعمة، بل التفكُّر في الشهوة المذكورة. ثم إن كثيرين من المرضى يأكلون (بناءً على نصيحة الأطباء) الكبد دون طهي أو شيّ، (والكبد كما نعلم كلها دم) ، ومع ذلك لم يفترسوا أحداً.

مما تقدم يتضح لنا أنه ليس هناك سبب معقول لتحريم شرب الدم سوى ذاك الذي ذكره الوحي الإِلهي، وهو لأن الدم يكفّر عن النفس (لاويين 17: 11) ، الأمر الذي يدل على أن الوسيلة الوحيدة التي عيّنها اللّه للقبول أمامه، هي الفداء بالدم.

 

- 7 -

تطوّر الآراء من جهة الفداء بدم الذبائح

 

لا تزال الذبائح الحيوانية تشغل إلى الآن مركزاً عظيماً بين كثير من الناس في بلاد متعددة، غير أن فكرة تقديمها لأجل الحصول على الغفران أخذت في التطوّر بين رجال اللّه منذ عهد بعيد. ولنقف على الأسباب التي أدّت إلى هذا التطور نقول:

1 - عدم كفاية الذبائح الحيوانية للفداء:

بما أن الفدية التي تصلح للتكفير عن الإِنسان يجب أن تكون معادلة له في القيمة لتكون كافية للتعويض عنه، وبما أن نفس الإِنسان روحية خالدة وذات خواص أخلاقية وعقلية سامية، بينما نفس الحيوان فضلاً عن أنها دموية لا خلود لها، إذاً لا يمكن أن تكون في ذاتها كافية لفداء الإِنسان والتكفير عنه أمام عدالة اللّه.

2 - أسباب استعمال الذبائح الحيوانية للفداء:

يتساءل بعض الناس: إذا كانت الذبائح الحيوانية غير كافية في ذاتها للتكفير عن الإنسان، فلماذا أمر اللّه بتقديمها؟

الرد: لم يكن الإنسان في العصر الأول يقدّر القيم الأخلاقية تقديراً صحيحاً، كما يشهد بذلك الكتاب المقدس وكتب التاريخ، فكان يتعذر عليه إدراك نتائج الخطية في نفسه، أو مقدار الإساءة التي يوجهها إلى اللّه بفعلها. فمن البديهي أن يبدأ اللّه وهو الحكيم العارف بطباع البشر وطرق تعليمهم وتهذيبهم، بإظهار خطورة الخطية ووخامة عواقبها بوسائل ملموسة تستطيع عقولهم البدائية فهمها وإدراكها. وذلك بتصوير الموت الذي هو النتيجة الحتمية للخطية بعمل يمكنهم رؤيته بعيونهم وفهم معناه بعقولهم، كما هي الحال في تعليمنا للأطفال، فإننا نقدّم لهم الصور قبل الكلمات المعبِّرة عنها، لأنهم يستطيعون إدراك مدلول الصور قبل إدراك معاني الكلمات. ولما كان الحيوان هو أقرب الكائنات إلى الإِنسان شعوراً بالراحة والألم، كما تظهر عليه بوضوح علامات الحياة والموت، كان بديهياً أن يعلن اللّه للخطاة ما يستحقونه من عذاب مصوَّراً في ذبح حيوان وحرقه، ليدركوا أنه بسبب خطاياهم كان يجب أن يكونوا مكان هذا الحيوان، لكن اللّه من باب العطف عليهم سمح به كفارة عنهم. ولذلك كانوا يشعرون بشناعة الخطية، ويشكرون اللّه لأنه جعل لهم طريقاً للخلاص من قصاصها.

3 - أسباب تطوّر الآراء من جهة الذبائح الحيوانية:

لكن بارتقاء البشر أخلاقياً وروحياً، أخذوا يدركون نجاسة الخطية وتأثيرها الشنيع على نفوسهم، وفداحة الإساءة التي يوجّهونها إلى اللّه بارتكابها، فأدركوا أن الذبائح الحيوانية لا يمكن أن تكون في ذاتها هي الفدية التي قصدها اللّه للخلاص من عقوبة الخطية. وقد صدَّق اللّه على إدراكهم هذا فقال اسمع يا شعبي فأتكلّم. لا على ذبائحك أوبّخك، فإن محرقاتك هي دائماً قدامي. لا آخذ من بيتك ثوراً ولا من حظائرك أعتدة (أي جداء) ، لأن لي حيوان الوعر (أي الغابة) ، والبهائم على الجبال الألوف... هل آكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس؟ اِذْبَحْ للّه حمداً وأوفِ العلي نذورك وادْعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني (مزمور 50: 7-15) . وقال داود النبي: لأنك لا تُسرّ بذبيحة. وإلا فكنتُ أقدّمها. بمحرقةٍ لا ترضى (مزمور 51: 16) . وتساءل ميخا النبي: بِمَ أتقدم إلى الرب وأنحني للإِله العلي؟ هل أتقدم بمحرقات، بعجول أبناء سنة؟! هل يُسرُّ الرب بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت؟! هل أعطي بِكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟! (ميخا 6: 6 و7) .

هذا هو ما انتهى إليه الأنبياء الذين كانوا يؤمنون باللّه ويعملون كل ما في وسعهم لينجوا من عقابه ويحصلوا على ثوابه، كما كانوا يكثرون من الصلوات والأصوام وأعمال الرحمة والإحسان وتقديم الذبائح والقرابين، ومع ذلك كانت خطاياهم على الرغم من قلتها أكثر وأشنع من أن يجدوا لها بهذه الوسائل غفراناً. لذلك قطعوا الأمل من جهة القبول أمام اللّه، فقال أيوب ليس بيننا (أي بينه وبين اللّه) مصالح يضع يده على كلينا. ليرفع (اللّه) عني عصاه ولا يبغتني رعبه . وقال أيضاً: فكيف يتبرر الإِنسان عند اللّه؟ (أيوب 9: 33 و34) . كما قطعوا الأمل من وجود أي فدية عن نفوسهم. فقال داود النبي الأخ لن يفدي الإنسان فداءً، ولا يعطي اللّه كفارة عنه. وكريمة هي فدية نفوسهم، فغَلِقَت إلى الدهر (مزمور 49: 7 و8) . أي أن الإِنسان لا يستطيع أن يفدي أخاه الإِنسان مهما كانت علاقة المحبة التي بينهما، لأن الفدية الحقيقية ليست في متناول البشر على الإطلاق (كما سيتضح في الباب الرابع) . وقد صدَّق المسيح على اعتقادهم فقال ماذا ينتفع الإِنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإِنسان فداء عن نفسه؟ (متى 16: 26) .

لقد تحيَّر هؤلاء الأفاضل وشعروا بعجزهم عن معرفة الفدية الحقيقية التي تصلح للتكفير عنهم، لأنهم لتأثرهم بقداسة اللّه تأثراً حقيقياً كانوا يرون الخطية كما هي بكل شناعتها وخطورتها. أما البعيدون عن اللّه فلا يستطيعون رؤية الخطية في هذه الصورة، فيظنون أنه من السهل الحصول على الغفران بواسطة أي عمل من الأعمال التي يطلقون عليها الأعمال الصالحة. لكن لو تطلعوا إلى ذواتهم في نور عدالة اللّه وقداسته اللتين لا حدّ لهما كما فعل هؤلاء الأفاضل، لاستطاعوا أن يدركوا عجزهم الكلي عن محو خطاياهم بكل أعمالهم الخيرية وممارساتهم الدينية، ولصرخ كل واحد منهم كما صرخ إشعياء النبي قديماً ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين! (إشعياء 6: 5) ، ولتهيأوا تبعاً لذلك لمعرفة الطريق الذي أعلنه اللّه للخلاص من عقوبة الخطية ونتائجها الشنيعة، والذي سنوضحه فيما يلي.

الاعتراضات الموجهة ضد هذه الحقائق والرد عليها:

1 - ءيدل عدم طلب اللّه ذبيحة من بني إسرائيل الوارد في مزمور 50: 7-15 على عدم ضرورة تقديم الذبائح للحصول على الغفران. كما أن قول اللّه على لسان إرميا النبي لليهود ضمُّوا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكُلوا لحماً، لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة (إرميا 7: 21-22) يدل على وجوب عدم تقديم الذبائح المذكورة.

الرد: المقصود من مزمور 50: 7-15 ليس النهي عن تقديم الذبائح للحصول على الغفران، بل التنبيه إلى عدم استطاعة البشر أن يقدموا الذبيحة الكافية عن خطاياهم، فإن اللّه تولَّى تدبيرها بنفسه (عبرانيين 10: 5-9) والدليل على ذلك أن اللّه حرّضهم بعد هذه الآيات ب 600 سنة تقريباً بواسطة ملاخي النبي على تقديم الذبائح التي لا عيب فيها، فقال لهم: إن قرَّبتم الأعمى ذبيحة، أفليس ذلك شراً؟ وإن قربتم الأعرج والسقيم، أفليس ذلك شراً؟ (ملاخي 1: 8) .

وبالرجوع إلى إرميا 7: 21-22 نرى أن المراد ليس وجوب امتناع اليهود عن تقديم الذبائح، بل وجوب توبتهم للّه وإصلاح طرقهم أمامه، لأنهم كانوا يظلمون الغريب واليتيم والأرملة، كما كانوا يسفكون دماء الأبرياء ويركضون وراء العبادة الوثنية، وبعد ذلك كانوا يتقدمون بذبائحهم إلى اللّه! (إرميا 7: 1-15) .

 

الصفحة الرئيسية

جميع الحقوق محفوظة

عاودوا الزيارة بعد فترة وسوف تجدون مواضيع هامة جداَ